الخلاصة
ثّل الأخذ بفكرة النيابة خروجاً على القواعد المعتادة في إبرام التصرفات، فالأصل أن الشخص الذي يتقدم لإبرام تصرف ما، هو الشخص الذي يعبّر عن إرادته المتجهة إلى إبرام التصرف، كما أنه الشخص الذي يكتسب ما ينتج عن التصرف من حقوق وهو الذي يتحمل ما يتأتى عنه من التزامات. ولقد بقي الفكر القانوني ردحاً طويلاً في إسار هذه النظرة؛ فالشخص هو وحده الذي يباشر التصرفات التي تخصه وهو وحده الذي تنصرف إليه آثارها. 2- بيد أن البقاء في ذاك الإطار سرعان ما ظهر عجزه في مواجهة متطلبات الحياة العملية؛ ذلك أن الإبقاء على تلك النظرة ما لبث أن أصبح عقبة أمام تداول الثروات والأموال، كما أنه قد عطّل الحياة القانونية لكثيرين من أفراد المجتمع. فتداول الثروات يستلزم المرونة في القواعد التي تحكم التصرف بها ونقلها من ذمة إلى ذمة. كما أن الكثيرين من أفراد المجتمع هم ممن لا يستطيعون التعبير عن إرادتهم، ومنهم من يستطيع، ولكن إرادته تقصر عن تحقيق مصالحه أو عن حمايتها. وهناك من لا تسعفهم ظروفهم بسبب المرض أو الغياب أو الحبس من مباشرة مصالحهم بأنفسهم فيحتاجون إلى من يباشرها بدلاً عنهم. 3- وهكذا وجد الفكر القانوني نفسه أمام معضلة يستوجب حلّها السماح لشخص بإبرام تصرف وقبول انصراف آثاره إلى آخر، فكان الحل هو النيابة. ولقد خضع الأخذ بهذه الفكرة ــ فكرة النيابة ــ إلى تطور طويل، بدأ بالسماح بتبنيها في إطار ضيق ثم السماح في مرحلة أخرى بتوسيع الإطار ليضم مجالات أخرى، وهكذا... ( ). ومع ذلك، فإن الأخذ بفكرة النيابة كنظام مستقل وتأطيرها في قواعد عامة لم تصل إليه بعض القوانين حتى الآن، ومنها القانون الفرنسي، في حين اتجهت قوانين أخرى، كالقانونيين الألماني والسويسري، إلى تبني الفكرة في قواعد ذات تطبيق شامل وأفردت لها نصوصاً عامة( ). 4- ولا بد من التنويه بما أحرزه الفقه الإسلامي من سبق في هذا المجال، فهو قد تبنى، استناداً لآيات وردت في القرآن الكريم، الفكرة، منذ بدايات تكونه. فقد وردت في القرآن إشارات عديدة، بل كثيرة، إلى صور النيابة المختلفة . تجاوز القرآن الكريم، إذن، العقبة التي كانت تواجه الكثير من التشريعات والتي تمثلت في صعوبة قبول "ترحيل" فعل إرادة إلى إرادة أخرى، فجازت النيابة في صورها كافة في الفقه الإسلامي ووضعت لها القواعد التي تنظم الأخذ بها. 5- وهكذا يتضح أن إبراز ما قدمه الفقه الإسلامي لفكرة النيابة أمر جدير بالبحث، خصوصاً إذا جرت مقاربته وموازنته مع ما ذهبت إليه التشريعات الأخرى. والدراسة تكتسي أهمية خاصة في القانون المدني الأردني، لأن المشرع الأردني لم يشأ أن يواجه النيابة بتنظيم متكامل، بل أورد جزءاً من قواعدها في القانون المدني ــ وبعض القوانين الخاصة ــ تاركاً البعض الآخر إلى ما قرره الفقه الإسلامي يستنبطه القضاءان، النظامي والشرعي، من مصادر هذا الفقه وأخصها مجلة الأحكام العدلية وكتاب الأحكام الشرعية. ولعل من حسن الطالع أن يتنبه المشرع الأردني إلى هذا النقص، فيبادر إلى تنظيم كثير من قواعد الولاية الوصاية في قانون الأحوال الشخصية الجديد رقم 36 لسنة 2010، الذي صدر بتاريخ 17/10/2010. ونحن ننوي ما وسعنا الجهد، عرض هذه القواعد بما فيها تلك التي أوردها القانون الجديد مكتملةً وذلك من خلال التعرض لصور النيابة في (قسم أول)، لنثني بعد ذلك لبحث آثار النيابة في (قسم ثانٍ)، وذلك بعد الوقوف على بعض المعارف الأساسية الخاصة بالنيابة في (فصل تمهيدي).